الزيارة المعلقة.. حين يقع ملك إسبانيا بين فكي "السيادة" والرغبة في تفادي الصدام مع المغرب
لا يزال موضوع تأكيد القصر الملكي الإسباني خبر زيارة الملك فيليبي السادس وعقيلته الملكة ليتيثيا إلى مدينتي سبتة ومليلية ثم التراجع عن ذاك، عصيا على التفسير إلى حدود اللحظة بعد مرور 48 ساعة على هذا الأمر، خاصة وأن العاهل الإسباني كان قد قرر زيارة جميع مناطق الحكم الذاتي الإسبانية عقب جائحة كورونا، وهو البرنامج الذي كانت آخر محطاته إقليم بلنسية أمس الجمعة.
وبغض النظر عن دعوات الوطنيين اليمينيين الإسبان المتكررة للملك من أجل زيارة الثغرين الوحيدين الخاضعين لسيطرة إسبانيا في قارة إفريقيا، لما يحمله الأمر من دلالات رمزية تعاود التأكيد على سيادة إسبانيا على المدينتين اللتان يطالب المغرب باسترجاعهما، فإن حسم هذا الأمر لا يقتصر على القصر الملكي وحده، بل إن الفصل فيه راجع للحكومة التي لا تريد إعادة سيناريوهات الصدام مع المغرب بسبب الأزمات الحدودية، وهي التي بالكاد استطاعت الوصول إلى اتفاق مع الرباط بخصوص ترسيم الحدود البحرية.
أزمة ليلى في الأذهان
وبالعودة إلى فترة حكم الملك محمد السادس وحدها، التي انطلقت في يوليوز من سنة 1999، يتضح أن المناطق المتنازع عليها تسببت في أزمات خطيرة مع إسبانيا، مثلما حدث في أزمة جزيرة ليلى التي استمرت ما بين 11 و20 يوليوز 2002، حين حاول المغرب إحداث مركز لمراقبة السواحل هناك، وكادت أن تشعل حربا عسكرية بين البلدين قبل أن يتدخل وزير الخارجية الأمريكي وقتها كولن باول لنزع فتيل النزاع.
وكانت أزمة جزيرة ليلى دليلا على استمرار النزعة اليمينية الاستعلائية تجاه المغرب لدى سياسيين وعسكريين إسبان، وخاصة رئيس الوزراء وزعيم الحزب الشعبي وقتها، خوسي ماريا أثنار، فالجزيرة عمليا لم تكن مأهولة ولا تزال كذلك إلى الآن، كما أنها لا تبعد عن السواحل المغربية سوى بـ250 مترا بالإضافة إلى أن الرباط بررت دخول 12 فردا من قواتها المسلحة بالتصدي لعمليات الهجرة السرية، لكن مدريد أصرت على الصدام، بل ومضت بعيدا حين نشر الإعلام الإسباني صور عملية "روميو سييرا" التي أظهرت عناصر القوات الخاصة وهم ممسكون بـ6 جنود مغاربة وقد وضعوا أكياسا على رؤوسهم.
تجربة اشتراكية سابقة
وكان لهذا النزاع الحدودي ما بعده، حيث عاشت العلاقات المغربية الإسبانية إحدى أسوأ فتراتها اقتصاديا وأمنيا، لكن شاءت الأقدار أن لا يستمر هذا الأمر طويلا، ففي 11 مارس 2004 ستقع تفجيرات مدريد قبل 3 أيام فقط من موعد الانتخابات العامة، ما أدى إلى قبل الموازين تماما وسقوط الحزب الشعبي أمام منافسه التقليدي الحزب الاشتراكي العمالي بقيادة خوسي لويس رودريغيث ثباتيرو، هذا الأخير الذي كان أميل إلى التعاون مع الرباط ونسج علاقات طيبة معها.
لكن فترة ثباتيرو ستشهد مرة أخرى أزمة مع المغرب بسبب المناطق المتنازع عليها، والتي ستخرج من القصر الملكي الإسباني تحديدا، عندما بدأ الملك خوان كارلوس الأول والملكة صوفيا زيارة إلى مدينتي سبتة ومليلية في 5 نونبر 2007، وهي الزيارة التي ظلت تؤجل منذ 1975 تاريخ عودة النظام الملكي إلى إسبانيا.
وحينها، صرح ثباتيرو أن زيارة الملك والملكة إلى المدينتين يأتي "لتأكيد حرصهما عليهما" أما العلاقات مع المغرب "فجيدة جدا وستظل كذلك"، وهو ما لم يكن رأيَ الرباط التي استدعت سفيرها من مدريد، وسمحت بتنظيم وقفة احتجاجية أمام القنصلية الإسبانية بتطوان، قبل أن ترفع يدها عن ضبط زوارق الهجرة غير النظامية المتوجهة إلى إقليم الأندلس وجزر الكناري.
استفادة من أخطاء الماضي
لكن الحكومة الاشتراكية الحالية التي يقودها بيدرو سانشيز، تبدو أكثر اقتناعا بضرورة تفادي الصدام مع المغرب، وهو ما يظهر من خلال النأي بنفسها عن الحرب الكلامية التي حزب فوكس اليميني المتطرف والحزب الشعبي الذي ينتمي إليه خوان بيباس، رئيس الحكومة المحلية لسبتة، واللذان يتهمان المغرب بمحاولة خنق المدينة من خلال وقف التهريب المعيشي ومنع الأنشطة التجارية عبر البوابة الحدودية "تارخال".
ويظهر هذا النهج الحكومي أيضا من خلال بعث وزيرة الشؤون الخارجية، أرانتشا غونزاليس لايا، إلى الرباط لمناقشة موضوع ترسيم الحدود البحرية مع نظيرها ناصر بوريطة، على الرغم من أن قوميي جزر الكناري كانوا يدعون الحكومة إلى تبني "الصرامة" وإيصال النزاع إلى طاولة الأمم المتحدة، وهو الخيار الذي تجاهل أيضا دعوات "فوكس" إلى تبني الخيار العسكري.
لكن هل كان الحرص على العلاقة مع المغرب أيضا سببا في تراجع قصر "ثارثويلا" عن خبر زيارة الملك إلى سبتة ومليلية؟
هذا اللغز يفسره أيمن الزبير، الصحافي المغربي المتخصص في الشؤون الإسبانية، الذي يرى أن كل ما له ارتباط بالعلاقات المغربية الإسبانية يدار بحساسية شديدة، والدليل على ذلك، بحسبه، هو الطريقة التي أُعلنت بها الزيارة المرتقبة الى سبتة، إذ عمد القصر الإسباني إلى تسريب الخبر لبعض وسائل الإعلام ليتم نفيه عبر الطريقة نفسها، بينما جرت العادة أن يتم الاعلان عن الأنشطة الرسمية عبر بيانات واضحة ودون مواربة.
ويضيف المتحدث نفسه أن هذا التراجع، في ظل غياب مواقف واضحة ومعطيات دقيقة، "يوحي بأنه عولج إسبانيًا، أي بين الحكومة والقصر، أولا لأن زيارة بهذه الطبيعة يصعب الإعلان عنها دون التوافق بين رئيس الحكومة والعاهل الاسباني، وثانيا لأننا إذا افترضنا أن المغرب عبر عن موقفه عبر القنوات الرسمية فيصعب تخيل أن يكون ذلك في ساعتين"، خالصا إلى أن كل شيء يبقى واردا في ظل وجود قنوات حوار مفتوحة بين البلدين.
معاني الزيارة الملكية
ولا يمكن النظر إلى زيارة مَلِكَيْ إسبانيا إلى سبتة ومليلية من المنظار نفسه الذي يُنظر من خلاله إلى زيارتهما لمختلف مناطق بلدهما، فالأمر يتعلق بدعوات متكررة صادرة عن حكام المدينتين طيلة 6 سنوات من تولي فيليبي السادس للعرش، زار خلالها كل مناطق إسبانيا بما فيها جزر الكناري البعيدة بأكثر من 2000 كيلومتر عن مدريد، إلى جانب الوضعية الاقتصادية التي تعيشها المنطقتان حاليا نتيجة تشديد المغرب للإجراءات الحدودية معهما، وفي المقابل لا يخفى على أحد أن هذه الزيارة لن تسُر الرباط.
وفي هذا الصدد يقول الزبير، الصحافي بشبكة "الجزيرة"، إن العلاقات المغربية الإسبانية "معقدة لكنها في نفس الوقت جيدة وتخضع للغة المصالح"، مضيفا "بعيدا عن هذه الزيارة يعتبر ملف سبتة ومليلية رقما صعبا، وهناك استياء إسباني ومحلي في المدينتين اللتين تأثرتا بالقرار المغربي القاضي بإنهاء التهريب المعيشي، إذ ثمة انطباع بأن الرباط فاجأت إسبانيا بالمشاريع الضخمة، خاصة في محيط سبتة، وهو ما أربك السلطات الإسبانية التي كانت تعتقد أن المغرب لن ينهي التهريب نظرا لتشغيله آلاف المواطنين".
وانطلاقا من ذلك يرى الصحافي المغربي أنه لا توجد حاليا في إسبانيا خطة واضحة لإنقاذ الاقتصاد المنهك في المدينتين، وفي هذا الإطار "تعتبر زيارة العاهل الإسباني، إن تحققت، رسالة تضامن مع المدينتين ومحاولة لرفع شعبية الملكية في إسبانيا التي تتعرض لانتقادات واسعة بعد توالي فضائح الفساد التي تلاحق الملك الوالد، الذي سيتابع قضائيا في الأشهر المقبلة".